هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أحمد ضاهر ... ـ جاسوس الصدمة

اذهب الى الأسفل

أحمد ضاهر ... ـ جاسوس الصدمة Empty أحمد ضاهر ... ـ جاسوس الصدمة

مُساهمة من طرف mad السبت فبراير 25, 2012 12:26 am

سقطت مغشياً عليها... وسقط الجنين ... وتكر السنون تطرحها تأكل فؤادها... وعقلها... وتلتهم جذور صبرها بلا هوادة...

استغل هو معاناتها... وضغط بقوة على براكين آلامها ... ففجرها... وأشعل بداخلها ثورة من جنون غاضب .. متمرد، وصرخت: سأحرق قلوبهم وأنسف أفراحهم ... إنني أتشوق للعمل معكم بشرط ألا أتعرى ... أو أضاجع حيواناً منهم مهما كان مركزه.

هكذا بدأت "نورما عساف" في لبنان ...

رحلة الانتقام ... والثأر ... والكراهية .. !!

شبكات التعقب

عندما تتجسس المخابرات الإسرائيلية على الدول العربية، فهي إنما تسعى لمعرفة أدق الأسرار الحربية والسياسية والاقتصادية لتبني استراتيجيتها المختلفة. أما في لبنان، وفي حالة الجنوب اللبناني بالذات، فالوضع يختلف كل الاختلاف، إذ أنها تتعامل مع منظمات ثورية وجماعات فدائية دائمة التنقل والحركة، تخطط لعمليات هجومية وانتحارية فجائية يصعب رصد مقدماتها أو توقيتها، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على القوات الإسرائيلية، التي تظل في حالة طوارئ مستمرة توقعاً لكل شيء.

لهذا سعت الموساد لتجنيد أكبر عدد من سكان القرى الحدودية لإمدادها بأخبار فورية عن الفدائيين، معتمدة في ذلك على أسلوبين من العمل التجسسي:

I. جاسوس يعمل منفرداً، موثوق في إخلاصه وصدق معلوماته وأخباره، غير مطالب بالبحث عن خونة آخرين لتكوين شبكة جاسوسية "وهو يختلف عن جاسوس المهمة الواحدة".

II. شبكة جاسوسية تضم أكثر من عميل في عدة مواقع.

والشبكة عادة ما تتكون إما عن طريق جاسوس ماهرة أعطى أمراً بتجنيد آخرين لمعاونته، وإما بإلحاقه تحت إشراف جاسوس آخر، أو شبكة مؤلفة سلفاً.

لقد انفردت لبنان – عن بقية الأقطار العربية بكثافة عدد الجواسيس داخل الشبكة الواحدة. فعندما ضبطت السلطات الأردنية إحدى شبكات الموساد، وتبين أن أعضاءها وصل عددهم لـ "37" جاسوساً، تملكنا العجب. لكن ... أن تسقط في لبنان أوائل العام 1999 شبكة واحدة مؤلفة من "200" عميل للموساد، فذلك هو الأعجب حقاً... والدليل الذي لا يحمل تأويلاً على ازدهار النشاط التجسسي الإسرائيلي في لبنان ... مما يعطينا مؤشراً لدى الرعب الإسرائيلي والهلع من عمليات الفدائيين الفجائية، برغم وجود ثلاثة آلاف عميل يتألف منهم جيش لبنان الجنوبي.

لكل ذلك نخلص إلى حقيقة جلية، أن الجاسوسية الإسرائيلية في لبنان هي عماد الأمن الذي تنشده، ومن هنا تتعامل الموساد مع ما بثته اللاسلكيات في لبنان بشكل مغاير تماماً لمثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى. إذ تتخذ الاستعدادات الأمنية الضرورية بمنتهى السرعة في سباق مع الزمن. فالتحركات الفدائية تتسم دائماً بسرعة الحركة والفعل... ولا وقت للتريث ريثما يتأكد صحة البلاغ أو الخبر.

تماماً، عكس الشبكات في الدول العربية الأخرى التي لا تأخذ الموساد أخبارهم بمحمل الجد، إلا إذا جاء ما يؤكدها من خلال شبكة أخرى داخل القطر نفسه. لكن هناك حالات استثنائية جداً كانت فيها الموساد تثق في صدق المعلومة المبثوثة إليها دون أدنى مراجعة، للثقة العالية في مصدرها .

وفي القصص السابقة تعرفنا على العديد من حالات التجسس المنفرد... ونتعرف من خلال هذه القصة على نموذج آخر لأساليب التجسس الإسرائيلي، وهو نظام شبكة الجاسوسية المكلفة بتتبع الفدائيين والتغلغل في مهارة داخل نسيجهم للحد من عملياتهم وتسللهم عبر الحدود، فتلك هي وظيفتها الأساسية، بعيداً عن القيام بأعمال تخريبية في لبنان، أو ترويج الإشاعات، أو المساعدة في تسهيل مهام الاغتيالات لزعماء الثورة الفلسطينية.
راقصة المونتريكال

بداية ... أشير إلى أن المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني بالذات لم تتوقف أو تكف عن إنهاك إسرائيل منذ قيامها، وكان ذلك من خلال عمليات محدودة وغير منظمة. استمر هذا الوضع حتى أعلنت منظمة التحرير عن نفسها عام 1965، فأشتعلت المقاومة، وتضاعفت حدتها ضراوة بعد نكسة يونيو 1967، ثم ازدادت اشتعالاً بعد أحداث أيلول الأسود 1970، وطرد المقاومة من الأردن إلى لبنان... فقد تصاعدت العمليات الفدائية بشكل انتقامي متصل ومنظم، لا يهدأ سواء عبر الحدود، أو بدفع لنشات الفدائيين عبر البحر المتوسط للمدن الساحلية والمستعمرات الإسرائيلية، والقيام بعمليات غاية في الجرأة والجسارة داخل الأرض المحتلة.

كان الأمر بحق مرعباً في إسرائيل، ولهذا لجأت الموساد لأسلحتها الفتاكة المعتادة – الجنس والمال – للحد من هجمات الفدائيين، وبرعت في تصيد عدد كبير من الخونة لإمدادها بتحركاتهم وخططهم ونواياهم. وكان من بين هؤلاء الخونة "أحمد ضاهر" 37 عاماً من بلدة "عيترون" الواقعة على بعد خمسة كيلو مترات من الحدود الإسرائيلية جنوبي لبنان.

فمن هو أحمد ضاهر؟ وما الظروف التي دفعت به إلى السقوط في مصيدة الخيانة؟ وكيف استطاع تأليف شبكته الجاسوسية؟

إنها قصة طويلة مثيرة بدأت أحداثها في بيروت عام 1969.. عندما قرر أحمد ضاهر فجأة أن يغلق دكان بقالته في "عيترون" ويهجر حياة البساطة إلى أضواء بيروت، يراوده حلم الشهرة في عالم الغناء والطرب.

وما أن احتوته المدينة الجميلة الساهرة، حتى اجتاحه إحساس جميل بمستقبل مشرق ينتظره... وشعور بالأمان طالما افتقده منذ أنهى الخدمة في الجيش اللبناني – كرقيب متطوع – إثر حادث سيارة ترك بصماته بعظام ساعده الأيمن. واستطاع وقتها، بالمكافأة المادية التي حصل عليها، أن يفتتح محلاً بسيطاً للبقالة في قريته.

إلا أن مطالب أمه العجوز وزوجته رباب وأولاده الأربعة كانت أكبر من دخل دكانه، مضافاً إليها مجموع ما ينفقه على شراء اسطوانات الأغاني والمجلات الفنية، التي تقربه دائماً من عالمه الذي يسبح فيه خلال إرهاصاته ليل نهار.

وجمعته هواية الفن بشاعر حالم اسمه "كمال المحمودي"، دأبت على السهر معه، وانتقاء ما يصبح من أشعاره للغناء. فامتزجا معاً يحلمان بالشهرة وبالمجد، ويبعثران أحلامهما عند انقضاض الواقع، ولما سافر كمال المحمودي إلى بيروت يبحث عن فرصة تحقق لهما الأمل، كتب إلى صاحبه ليلحق به. وأقاما معاً بشقة صغيرة تتألف من حجرة واحدة في حي بئر العبد، الواقع ما بين المطار الدولي جنوباً والمرفأ من الشمال، يفصلهما عن حي الحمراء الشهير المدينة الرياضية، وصبرا، والمزرعة، وتل الخياط.

مسافة كبيرة يقطعانها سيراً على الأقدام في أحيان كثيرة، يحملان معاناة المجد والحياة والأضواء التي أثقلتهما وأنهكتهما. فرحل الشاعر يائساً إلى باريس، وبقي أحمد ضاهر وحده ببيروت يصارع اليأس والجوع والتعب.

أربعة أشهر وهو ينقب عن فرصة للغناء في كباريهات المدينة، تعرف خلالها بفتاة ترقص الدبكة في ملهى "مونتريكال" في "جونية" وقدمته لإدارة الملهى كمطرب من الجنوب، لكنهم عرضوا عليه أن يعمل كبودي جارد، وأمام حاجته إلى المال، وافق على العرق، وظل يعاني صراعاً داخلياً مريراً أوصله إلى درجة السآمة.
فوار أنطلياس

في إحدى الليالي بينما يجتر حاله، خرجت إحدى الزبونات تترنح لا تدري أين أوقفت سيارتها. فساعدها في البحث عنها لكنها لم تكن بحالة تسمح لها بالقيادة ليلاً، وأجابها بنعم عندما سألته عما إذا كان بمقدوره القيادة وتوصيلها لمنزلها.

وفي السيارة تأمل لأول مرة السيدة الحسناء التي عن يمينه، وقد انحسر ثوبها الناعم القصير عن ثلثي ساقيها، وارتعش ثدياها النافران في تمرد سافر لاهتزازات الطريق، فأربكته لفتتها وقد قرأت في عينيه أفكاره، وسألته بصوت خفيض عذب مثير:

Ø بيظهر نظرك ممتاز.

أجابها وقد تمكن منه الإعجاب:

Ø يا لطيف بحالي، صوتك مثل اللوز الفرك، بيقرش قرش.

ضحكت في تأوه لذيذ وهي تقول:

Ø شو؟ تغنيلي قصيدة؟

تذكر في الحال حلمه الضائع، فنسى جسدها المرمري المثير وانطلق يحدثها عن أمانيه، وحلم الهجرة إلى الشمال أملاً في الغناء. وانتبهت إلى حديثه كأنما أفاقت من سكرها قليلاً وقد أخذ يشدو بصوت رخيم:

Ø وكم أهوى سواد الليل في العينين

Ø حورية

Ø وكم أهوى ... جنون الوهم ... أحياه

Ø بأشواقي البدائية ...

Ø عن الدنيا حكايات ...

Ø عن الأنثى ...

Ø عشيقاتي

Ø الأساطير الخرافية

صاحت في دهشة:

Ø صوتك شو حلو... إنشالله بتغني في "الكوت دو روا" ، ما تحير بالك.

وبدلاً من أن يواصل إلى بيروت – حيث تسكن في حي الأوزاعي – أمرته أن ينحرف بالسيارة حتى وصل إلى مفرق ضيق دخل فيه بين غابة من الصنوبر ثم استقر أمام مقهى كبير تظلله الأشجار فقال:

Ø أين نحن الآن؟

قالت وهي تهم بمغادرة السيارة:

Ø فوار أنطلياس.

تقدمته إلى ركن قصي، وجلسا متقابلان على طاولة يجري بموازاتها جدول صغير تترقرق موجاته مع حركة النسيم الرقيق.

مالت إلى الطاولة فظهر خليج صدرها الناصع يغور إلى الظلام، وسألته عن اسمه وموطنه وظروفه فأجاب. فطلبت كأسين آخرين من "الجين"، وبنظرة منها آمرة رفع كأسه وشربه، ومتردداً سألها عن اسمها فأجابته:

Ø "كارلا"

حاول أن يعرف المزيد عن شخصها فشردت ببصرها ورجته أن يؤجل ذلك لمرة قادمة.

كانت برغم جمالها الأخاذ وأنوثتها الفتاكة في الأربعين من عمرها أو يزيد بقليل. يهودية لبنانية الأصل اسمها الحقيقي "نورما عساف" هاجرت مع أبيها وأختها "ليز" إلى أمريكا عام 1957 وهي في الثلاثين. فقد أعرضت عن الزواج بعد مقتل زوجها عام 1951 على يد الفلسطينيين، عندما ضبطوه يتجسس على مواقعهم بالقرب من "قلعة شقيف" كانت قد اقترنت به وعمرها تسع عشرة سنة عام 1947 بعد قصة حب مجنونة اشتهرت في "أهدن" ولما جاءها نبأ مقتله كانت حاملاً في شهرها الثاني، فسقطت مغشياً عليها، وسقط الجنين، وضاعت فرحتها منذ تلك اللحظة.

ولمدة طويلة انغلقت على نفسها وتعثرت دراسياً بالجامعة الأمريكية ببيروت، إلى أن تماسكت شيئاً فشيئاً، فامتثلت للحقيقة وأكملت دراستها في الفلسفة وعلم الاجتماع، لكنها كانت في كل لحظة تضعف فيها عند هجوم الذكريات، تزداد يقيناً بأنها لم تنس الحبيب والزوج القتيل.

تكر السنوات وتطرحها موجات الحياة على الشواطئ فلا تنسى، وتظل حبيسة الماضي الذي يأبى أن يغادرها. واعتقد أبواها بأن الهجرة قد تنسيها معاناتها، وتمزجها بالمجتمع الجديد بعيداً عن لبنان، لكنهما كانا واهمان. فانتهما كانت مكبلة بماضيها بحبال من فولاذ وصورة زوجها ما تزال تتدلى على صدرها، أما خطاباته الغرامية فقد أودعتها علبة مزركشة برسوماته لا تغلق حتى تفتح. كانت هداياه أيضاً منثورة بكل أركان حجرتها، وملابسه تحتل مكان الصدارة في دولابها، حتى أحذيته... فكثيراً ما كانت تتلمسها برفق وحنان وشوق مسعور. وضحكت ذات يوم وقد حدثتها أمها مترددة في أن تصحبها إلى الطبيب النفساني، فقالت لها:

Ø أتحسبينني جننت؟ كنت أحب زوجي ولا زلت، ولن أسمح لرجل قط أن يلمس جسدي من بعده.
كارلا استيفانو

في شارع MULTRIE عاشت نورما بمدينة "شارلستون" ، وافتتح أبوها مطعماً بالقرب من الميناء يقدم الأطعمة الشرقية للبحارة العابرين. وفي منتصف 1958 وفد إلى المدينة زائر تبدلت مع مقدمه حياة نورما تماماً، إنه "روبي" ابن عم زوجها، الذي أنبأها بأنه هاجر إلى إسرائيل، وقد جاء إلى أمريكا ليتدرب في أحد المصانع، واندهش الشاب أمام تعلق نورما بحياتها في الماضي وعدم رغبتها في الخروج منها، وحاول معها كثيراً لكنه فشل.

وفي زيارته التالية لم يجيء وحده، بل كان بصحبته مراسل صحفي إسرائيلي، عرض عليها للخروج من أزمتها أن تسعى للانتقام من قتلة زوجها، وأن تطاردهم أينما كانوا.

جذبها حديثه وحرك فيها كوامن الثأر التي كم راودتها لكنها عجزت عن إيجاد الوسيلة لذلك. ولما سألته كيف تنتقم وتثأر (؟‍!!) أجابها بأن هناك وسائل شتى للانتقام وإراحة أعصابها، ووعدها بأن يجيئها بالشخص الذي يعاونها.

وبعد أيام قلائل، كانت تنصت باهتمام شديد لرجل لبق أنيق، استغل معاناتها جيداً وضغط بقوة على براكين آلامها ففجرها، إنه "أبرا هام مردوخ" ضابط المخابرات الإسرائيلي..

لقاء واحد بينهما أشعل أبرا هام بداخلها ثورة من جنون الغضب، والحقد الأسود والكراهية للفلسطينيين، ولم تنتظره ليعرض عليها العمل مع الموساد... بل هي التي ضغطت فكيها توعداً وصرخت فيه:

Ø سأحرق قلوبهم كما فعلوا بي، سأنسف أفراحهم وأحلامهم... إنني أتشوق للانتقام والثأر، فألف كلب منهم لن برويني دماؤهم.

أجابها في هدوء:

Ø سيدتي ... الغضب في عملنا قد يكلفنا حياتنا. نحن نعمل بلا أدنى اندفاع، فالحرص والذكاء هما مفتاح مهامنا وقوتنا، وأساس عملنا في جهاز المخابرات.

قالت:

Ø إنني على استعداد تام للعمل معكم، لكن بشرط، ألا أتعرى لرجل، أو تضغطوا علي لأضاجع حيواناً عربياً، مهما كان مركزه، لأجلب منه أسراراً تريدونها.

ابتسم مردوخ ابتسامة باهتة لا تحمل معنى وعقب قائلاً:

Ø ليكن في معلومك سيدتي أن الجنس أمر غير وارد في عملنا ... (!!) ... لكننا نلجأ إليه مع بعض العرب الذين يعيشون حالة شرسة من الجوع الجنسي، والبعض الآخر يكتفون بالمال فقط للتعاون معنا. وعلى كل، أعدك بألا نُعرضك لأولئك الجوعى، فعندنا فتيات مدربات جيداً للتعامل معهم.

انتهى اللقاء بينهما ... وكان عليها أن تنتظر بضعة أيام ليجيئها الأمر بالسفر إلى تل أبيب. وقد حدث، وطارت تسعمائة كيلو متراً إلى نيويورك حيث التقت بمردوخ، الذي شرح لها خطواتها القادمة، وأطلعها على ما يجب أن تفعله في روما.

في روما كان ينتظرها شخص ما تسلم منها وثيقتها اللبنانية وسلمها وثيقة أخرى باسم "كارلا ستيفانو"، وظل يتابعها من بعيد حتى وهي تصعد سلم الطائرة الإسرائيلية المتجهة إلى مطار اللد.

كانت تشعر بسعادة غامرة وقد أدركت أن هناك تغيرات جديدة اقتحمت حياتها. بحفها إحساس بالنشوة وهي مقبلة على الانتقام لزوجها، وثمة تبدلات لذيذة اجتاحت مشاعرها عندما حلقت الطائرة إلى دائرة كاملة فوق تل أبيب، قبل أن تهبط باللد على بعد سبعة عشر كيلو متراً، وهتفت:

Ø ها هي إسرائيل أخيراً... الوطن الجديد والحلم والمعاناة ... الوطن الذي قتل من أجله الحبيب ...

ومن أجله أيضاً تسعى للثأر بقدميها...
حية بين الأفاعي
Ø أهلاً بك في إسرائيل مسز نورما.

صافحت اليد الممدودة في سعادة، وتأملت وجه الرجل البشوش اللطيف القسمات وهو يقول:

Ø نأمل أن تكون الرحلة طيبة .. من فضلك دعيني أحمل حقيبتك ...السيارة قريبة من هنا.

كان الاستقبال حافلاً وحاراً كطقس سبتمبر 1958، وأخبرها موافقها أنها ستقيم بفيلا رائعة على شاطئ البحر في "نتانيا" وأنها بعد الغد ستكون ضيفة شرف على مائدة أيسير هاربل الرئيس الأعلى للمخابرات الإسرائيلية، في احتفال يقام بمناسبة مرور ستة أعوام على رئاسته للمخابرات.

انبهرت نورما بهاريل عندما قام لاستقبالها، منحنياً أمامها في احترام وهو يقبل يدها ويدعوها إلى مائدته... وسرت ببدنها رجفة زهو سيطرت عليها بصعوبة.

التفت بوجهه الوديع ناحيتها وقال لها:

Ø لتغفري لي سيدتي أنني لم أكن في شرف استقبالك بالمطار. إنني لفخور جداً أن تنضم سيدة رائعة مثلك إلى أسرتنا في الموساد.

ازدادت ارتباكاً لرقة حديثه وذوقه في انتقاء كلمات الإطراء، وتمتمت ببضع كلمات خجلى بدت غير واضحة، فأخرجها من خلجها عندما وقف قائلاً:

Ø اسمحي لي مسز نورما أن أقدمك إلى كبار رجال الدولة في إسرائيل. مشت إلى جواره ثم تأخر عنها خطوة وهو يقدمها لأكبر ضيوفه: بن جوريون رئيس الوزراء الذي قبل يدها وهنأها على سلامة الوصول. ثم قدمها لغولدا مائير وزيرة الخارجية، ولبن زبون بنكوس وزير المواصلات، وشمعون بيريز وموشي ديان، ولشخصيات هامة أخرى منهم إسحاق يزير نيتسكي ، ويهو شافاط هاركابي ، ومائير ياري زعيم المابام، والجنرال آموز مانور ، والجنرال مائير ياميت ، وليلى كاستيل ، والياهو ساسون، وبنيامين بلومبيرج، وغيرهم من مؤسسي إسرائيل وكبار رجالاتها.

أحست نورما عساف بأهميتها رغم ضآلتها، وأسلمت قيادها لفريق من أكفأ رجال الموساد قاموا على تدريبها وتلقينها فنون التجسس، وطرق اصطياد الخونة وأساليب السيطرة عليهم.

أربعة اشهر كاملة في نتانيا أخضعت أثناءها لدورات مكثفة في التمويه والتخفي، واستعمال المسدس، واستخدام جهاز اللاسلكي في البث بشفرة معقدة، تستند إلى حروف من كلمات رواية "الأرض" للأديبة العالمية "بيرل بكْ" وأطلعوها أيضاً على ملف كبير يحوي أعمال زوجها القتيل في خدمة إسرائيل.

هكذا شحذوا همتها وأشعورها بأهمية دورها في لبنان، وذلك للحد من العمليات الفدائية المتكررة التي تجيء عبر الحدود مع إسرائيل.

وفي 23 يناير 1959 غادرت نورما تل أبيب إلى روما، وكان في استقبالها الشخص نفسه الذي قابلها عند مجيئها من نيويورك، فتسلمت منه وثيقة سفرها اللبنانية وطارت إلى بيروت. عشر سنوات في لبنان تطارد الفلسطينيين وتنقب عن ضعاف النفوس بين سكان الجنوب، تساعدها في مهامها فتيات ذوات حسن وجمال أخاذ، ينتشرن في كل أرجاء لبنان، منتدياتها، وكباريهاتها، وشواطئها، وفنادقها. البعض منهن يهوديات يعرفن حقيقة نورما عساف، والأخريات إما مارونيات أو أرمينيات يجهلن شخصيتها، ينقدن لرغباتها أمام سطوة المال وسحره، ويجتهدن في اصطياد الجنوبيين في بيروت، والفلسطينيين البائسين أيضاً.

عشر سنوات وشبكة نورما تبحث عن الخونة الذين يسهل إخضاعهم بالجنس والمال، فتطويهم طياً، وتزرعهم في جُبْ الخيانة لخدمة إسرائيل، وكان "أحمد ضاهر" أحد هؤلاء الذين تصيدتهم بمهارة، فماذا حدث بعد لقاء فوار أنطلياس؟ .

في ذكرى بيار ... ! !

بعد جلسة فوار أنطلياس انطلق أحمد ضاهر بنورما إلى شقتها، ماراً بطريق المرفأ مخترقاً حي المزرعة حتى الأوزاعي على الكورنيش، وأمرته بالتوقف أمام إحدى البنايات العالية، وطلبت منه أن يزورها بشقتها في اليوم التالي، حيث تكون قد أجرت عدة اتصالات بشأنه مع بعض الملحنين.

هكذا أمضى ابن الجنوب ليلته يحلم بالمجد، وينتظر موعد اللقاء على أحر من الجمر، في ذات الوقت الذي كانت فيه نورما تضع خططها وتنصب شباكها لاصطياده... إذ أدركت أنها أمام جنوبي قانط يبحث عن أمل.

وما أن حان موعد زيارته إلا وكانت في أبهى زينتها، ووقارها.

فتحت له الباب خادمة تضج بالأنوثة وقادته إلى الصالون فانبهر بروعة الأثاث وفخامة الديكور، وتوقف عند لوحة كبيرة ذات إطار محاط بشريط أسود. كانت اللوحة لشاب يبدو في عنفوانه علقت حول رقبته عناقيد من الورد، وأبانت ابتسامته الواسعة المتألقة أثار جرح قديم ممتد لأسفل ذقنه.

Ø بيار ، زوجي.

انتفض أحمد ضاهر واقفاً وهو يقول:

Ø الله يقدس روحه.

كانت ترتدي فستاناً طويلاً من الدانتيل الأسود، وثمة حزن بالغ يجسم على ملامحها برغم ابتسامتها، جلست قبالته في وقار أجبره على طرد ما فكر فيه بالأمس، لما غزته الرغبة أمام مفاتنها، واندهش وقد لاحظ أنه يجليس على حافة الكرسي في أدب جم.

أخبرته بأنها اتصلت بشأنه بالملحن المعروف "طنوس خوري"، ووعدها بأنه سيستمع إلى صوته بعد عودته من أثينا بعد أسبوعين، وقالت أيضاً أنها اتصلت بالفنان "وديع الصافي" فوجدته يحيي حفلاته بأمريكا. وعندما دخلت الخادمة الفاتنة تدفع أمامها عربة الشاي، تعمد ألا ينظر اليها، واتجه ببصره إلى الأرض، فقد كان ثوبها القصير ذي الحمالات مقور الصدر، يفضح نهدين متوثبين في انحناءتها الطويلة.

نفرت أعصابه فتصبب منه العرق، وأخذ يفرك أصابعه كطفل أغر، ولم يدر لماذا خطرت بباله زوجته رباب في تلك اللحظة بالذات، وأجرى مقارنة سريعة وسخر في نفسه لمجرد أن قارنها بالخادمة.

"رباب... ؟ ... لا وجه للمقارنة ايها الأبله... بقرة ضامرة الضرع والجسد وغزال بديع المحيا يتراقص رقصاً في مشيه ... " ... وأخذ يشدو:

Ø إن أعصابي انتهت ...

Ø لا شيء باق.

Ø فاعشقيني أبد الساعات رقصاً.

Ø واغمسي أظفارك البيضاء في عمري.

Ø ففيه تقرع الأجراس.

Ø تحتد الطبول.

Ø آه كم أصبحت مجنوناً،

Ø وكم أحتاج أن أبكي على صدر دفئ؟

Ø يأويني ... أنا الطفل الخجول.

Ø فصحرائي انشقت.

Ø وماضي احتضار موحش.

Ø فقر بخيل.

هتفت نورما في إعجاب:

Ø صوتك شو كتير حلو .. ليش بدك تبكي على صدر دافئ؟ افتكرت رباب ها الغبية؟

Ø هون ما في فرح "مشيراً إلى صدره".

Ø إنشا الله حياتك جميلة.

Ø عيونك بتنطق مرار.

امتقع لونها وارتعشت خلجاتها، وتنهدت في أسى:

Ø اليوم مات بيار من تمنتاش سنة ... هالذكرى ما بتموت، كان بحب لبنان وترابه، وبحب كل العرب، اتعصر حالو كتير واتبدل ... وصار يكره اليهود ويشرد وانا وياه. كنا عم نتمشى بالكورنيش طلت دموعه ... سألته شو صار .. ؟ حرقتني زفراته وبحرقة لكز الأرض وقال: هناك بفلسطين المدابح ... هناك فيه تقتيل ومعتقلات ومشردين، وكل العالم طق حنك ما في .. وهون، فيه رقص وطرب وسكرانين يدوروا عالبارات. الله يبيد اللي ما يدافع عالعروبة.

"أجهشت بالبكاء"... : مرت ليام وما عاد إلو أثر، فارقنا بيار عالجنوب واندار يضرب مع الفلسطينيين في اليهود، ولما صار يمرق عالحدود، فجّره لغم مزروع، وما عثر حدا على رجوله "رجليه"، ومات منزوف.

كان جسدها يهتز في انفعال وتأثر وهي تصف مشهد قتل زوجها، وكيف حملوه اليها بدون أطرافه السفلية.

لقد أجادت دورها ببراعة لا تملكها إلا ممثلة محترفة، واستطاعت أن تستحوذ على تعاطف ضاهر وإشفاقه، وبلهجة وطنية طلبت منه أن يساعدها لتنتقم من الإسرائيليين ولما أبدى عدم فهمه لطلبها قالت إنها تجد لذة كبرى وتشعر بسعادة غامرة كلما قرأت أو سمعت عن عمليات الفدائيين عبر الحدود، ولكن تتشوق لمساندتهم والوقوف إلى جوارهم رغبة في الانتقام، وتعاطفاً مع قضيتهم، وأبدت استعدادها لإمدادهم بالمال ليتواصل جهادهم، ثم أظهرت إعجابها الشديد ببطولاتهم وسالت ضاهر فيما يشبه الانبهار:

Ø كيف يعيش هؤلاء الأبطال؟

Ø كيف يتحركون؟

Ø كيف يتدربون؟

Ø كيف يتجمعون؟

Ø ما الطرق التي يسلكونها لعبور الحدود؟

Ø ما الأسلحة التي تنقصهم؟

Ø و ... ...... . الخ.

الصدمة

ألهبت حماستها مشاعره فكلمها عما يعرفه، وفشل في الإجابة عن بقية تساؤلاتها لأنه – كما قال – عاش منكمشاً في بقالته، لا يحفل بما حوله من تطورات تتصل بالفلسطينيين منذ ترك الجيش اللبناني.

عند ذلك أنهت الحديث عن الجنوب، وطافت به في رحلة رائعة حول عالم الفن وأحلام الشهرة، ثم نقدته مائتي ليرة ليقتني ملابس جديدة تليق بمقابلة الفنانين الكبار.

وفي زيارته الثالثة لشقتها، استقبلته خادمتها جورجيت بملابس تظهر أكثر مما تخفي. فمشى وراءها إلى الصالون مشدوهاً بترجرج مفاتنها، وثار بداخله وحش الرغبة يعوي عطشاً. وأنبأته بأن سيدتها في زيارة لمخيات اللاجئين في "صور" وهي على وشك العودة. فلما جاءتهه بكأس من العصير البارد اعتقد أنه سيخفف لسع النار بداخله، لكن هيهات أن تخمد رعشة الوطر بكأس بارد.

دق جرس التليفون فنادته، كان صوتها من بعيد يأتي آمراً:

Ø أنا هون بصورْ .. بتنتظرني.

أحس بلذة تسري بأوصاله، فما بين صور وبيروت يربو على الثمانين كيلو متراً، مسافة تقطعها السيارة في ساعة ونصف الساعة على الأقل. إنه بلا شك وقت ضئيل سيمر سريعاً على ملهوف مثله، يجمعه مكان مغلق بأنثى بركانية المفاتن تتبختر جيئة وذهاباً فيلعق الشفاه الظمأى، وتتصاعد من رأسه أبخرة الجحيم المتلظي.

حاول كثيراً أن يتماسك أمامها، أو يتظاهر بالثبات والهدوء، لكن شيطان الرغبة كان يعض في أعصابه وينهش مقاومته بلا رحمة، فيستسلم ابن الجنوب لابنة الموساد المدربة الماهرة، وقد تحول بين أحضانها اللافحة إلى طفل مشاغب أغر، استلذ طعم النشوة ببحرها لا يريد شطاً ولا نجاة.

لم يجل بناظريه بعيداً عنها، أو يلحظ الكاميرات الدقيقة وأجهزة تلقط الأصوات المبثوثة بالحجرة، تسجل قمة لحظات ضعفه، وشذوذه. فظمآن مثله لا يستطيع عقله المغيب ترجمة المعالم حوله، ذلك أن إعصار الرغبة أعماه، وأغرقه في جاهلية المدارك وأغوار اللاشعور.

كانت نورما قد تغلغلت داخل البيئات الاجتماعية الفلسطينية في لبنان، بادعائها التعاطف مع قضيتهم، ودأبت منذ سنوات عملها لصالح الموساد، على زيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينية للوقوف على مشاكل سكانها، والإنفاق بسخاء على المرضى والأطفال الأيتام، فحظيت بذلك على حب سكان مخيمات الجنوب لما لمسوه منها من ود وتعاطف.

هكذا كان الأمر في الظاهر. وما لم يعلمه أحد أنها كانت تعد تقارير وافية، تبعث بها إلى الموساد أولاً بأول، عن أحوالهم وتوجهاتهم ومعنوياتهم، مستعينة بشبكة هائلة من العلاقات مع رموز الفلسطينيين واللبنانيين، تمكنت من خلالهم من الحصول على أسرار دقيقة أفادت مخابرات إسرائيل كثيراً.

هذا ما حدث أيضاً بعد ذلك في السبعينيات، عندما أرسلت الموساد الجاسوسة الأردنية "أمينة داود المفتي" لجلب معلومات عن القادة الفلسطينيين، واستطاعت بسهولة أن تخترق أسرارهم لثقتهم بها كطبيبة عربية. كانت أمينة مدفوعة أيضاً بحب الانتقام من العرب، الذين أسقطوا طائرة زوجها الحربية فوق الجولان واختفت أخباره. واستغلت الموساد محنتها بمهارة إلى أن تم كشفها، وتركت لسنوات تواجه السجن والتعذيب المعنوي في أحد الكهوف بجنوب لبنان.

وهناك أخريات كثيرات بعثن إلى لبنان للامتزاج بالنسيج الاجتماعي الفلسطيني، بعضهن سقطن وبعضهن هربن. إلا أن نورما عساف كانت هي الأولى – حسب المعلومات المتوفرة – التي سبقت في هذا المجال، فنجحت في مهمتها خير نجاح بفضل ذكائها ومواهبها ودافعها للثأر.

ولما عادت إلى بيروت بعد رحلة صور، ابتسمت مرحبة بأحمد ضاهر، وسألته هل قامت جورجيت بالواجب تجاهه.. ؟ فكانت نظرة الرضا على وجهه تفضح جرعة "الواجب" التي حظي بها.

كانت ترتدي ملابس أنيقة محتشمة انتقتها بعناية، وغلفت رنة حزن صوتها وهي تقول له: "إن أعصابها لم تعد تحتمل ما تراه في الجنوب". وانتبه لحديثها وهي تفيض في وصف المخيمات، وحالة البؤس التي عليها سكانها، ولما تطرقت في الحديث عن الأطفال اليتامى، سرحت ببصرها إلى ما وراء الجدران... وترقرقت دموعها... ثم طفرت بلا وعي منها . فاختنق صوتها المتهدج وانتابتها نوبة من نحيب مرير. فقد هجمت غصباً عنها ذكرى موت طفلها الجنين .. وتذكرت أمومتها المحرومة ولوعتها شوقاً لطفل تلده، تذكرت أيضاً عمرها الزاحف للخريف وقد تساقطت منه السنون، وينهش جمالها الزمان لولا المساحيق التي تلطخ بشرة هاجمتها تجاعيد الحزن والغضب.

أذكى شجنها لهيب الحسرة داخلها. فاستسلمت لقبضة الضعف تطبق على ثباتها فتسحقها سحقاً، لكن ، أي صنف من النساء تلك المرأة؟ ... لقد توقفت فجأة عن النحيب، وتبدلت نظراتها الرقيقة الحانية إلى أخرى عنيدة... شرسة، ماكرة، فجففت دموعها ونطقت بقرارها:

Ø لحين برتب تذكرتين لأتينا، بدي أملص من هالكرب يومين باليونان، صار لازم ترافقني.

بدون إرادة، وجد نفسها إلى جوارها بالطائرة ظهر اليوم التالي ... وكانت خطة تجنيده في اليونان قد تم وضع آخر فصولها... مثل عشرات من اللبنانيين قبله رافقوها طواعية إلى "مصيدة العسل" طوال رحلتها المثيرة في عالم الجاسوسية.

كانت خطة السيطرة والتجنيد تعتمد على أسلوب "الصدمة" الصدمة القوية الفجائية STROKE OF LIGHTNING التي تشل وعي الضحية، وتفقده السيطرة على توازنه العقلي فيستسلم.

هذا الأسلوب ناجح جداً، وقد أجادته المخابرات السوفييتية بمهارة عندما كانت قوية، وترفضه – أحياناً – أجهزة المخابرات الأخرى معتمدة على نظريات خاصة بها... إلا أن الموساد خاضت كل الأساليب والنظريات المختلفة، وطورتها. وكانت نورما قد برعت إلى حد الاحتراف في أسلوب التجنيد بالصدمة، وهو أعلى درجات التمكن المهني التي تتطلب ذكاء خارقاً يفوق الوصف.
مصيدة أوسيانوس

حلقت الطائرة فوق الأكروبول ACROPOLIS في دائرة كاملة، ليتمكن المسافرون من تصوير القلعة من كل الزوايا، وفي ساحة المطار الخارجية كانت تنتظر سيارة ليموزين فخمة بداخلها جلست "أرليت" ... ملكة الإذابة .. رفيقة نورما ومحطة الخداع الأخيرة، التي ليس لها حل في جمالها.

صافحت أرليت ضيفها ونظراتها تخترقه، فألهبته، وأذابت عقله في لحظات معدودة، وفي بهو فندق "سالونيكا" ظهر "غسان" مهندس الإعداد والتنسيق... فتعارفوا جميعاً على أنهم أصدقاء نورما.

وفي أثينا القديمة – البلاكا – تناولوا العشاء في أحد المطاعم، حيث تتصاعد الأنغام الصاخبة، ويتألق الرقص الفولكلوري مجتذباً السياح الذين انسجموا مع هذا الجو المرح، فشاركوا في الرقص الشعبي على أنغام "البوزوكيا".

وبينما تصدح الموسيقى وتتعإلى الضحكات، أومأت أرليت إلى ضاهر فقاما إلى الرقص، قاذفاً بشرقيته وبخجله وطفق يرقص في نهم بلا كلل. ويمضي الوقت بهما سريعاً فيطل الفجر ... ويترنح ضاهر حتى يصل إلى سريره، لينام بعد ذلك نوماً ثقيلاً، استعداداً لرحلة "أوسيانوس".

كانت أوسيانوس باخرة ركاب عملاقة، تحتوي على 235 حجرة مكيفة، وحمام سباحة، وساحة للاسترخاء، وصالونات فخمة وبارات ومطعمين.

اجتمع الأصدقاء الأربعة على ظهر الباخرة، كانت نورما لا تفارق مجلس غسان، بينما انفرد ضاهر بأرليت كما تمنى. وبعد العشاء على أنغام الموسيقى الحالمة.. اختفيا عن الأنظار فوق السطح حيث أضواء النجوم وآهات العشاق وطرقعات القبل. حثدها كثيراً عن نفسه فأفردت له مساحة كبيرة من الألفة قربتهما، ونام يحلم حتى الصباح الباكر بأفروديت التي أيقظته بنقرات رقيقة من أصابعها على بابه:

Ø هادي رحلة يا كسلان، نحنا عالسطح منشان بنشوف "الميكونوس" الجميلة...

فرت من أمامه تجري ضاحكة، وعلى عجل ارتدى ملابسه وأدركها... بعد قليل أطلت جزيرة ميكونوس MYKONOS بشوارعها الضيقة البراقة، وبيوتها الكلسية البيضاء، مساحة هذه الجزيرة تبلغ حوالي 40 كيلو متراً مربعاً. جمالها الأخاذ حمل عدداً من الأدباء والفنانين على اقتناء بيوت لهم فيها .

وعند انتصاف النهار، ارتدت أرليت البكيني، وحملق ضاهر يتحسس بعينيه جسدها لا يصدق بأن أفروديت بعثت من جديد. فانبجس منه العرق وقد ثارت رغبته، وقذف بنفسه خلفها "في البيسين" لعله يطفئ لهيب جسده لكن الماء أزاده ناراً ولفحاً.

وفي اليوم التالي وصلت الباخرة إلى كريت، فزاروا قصر "كنوسوس" الذي كان مؤلفاً من 1200 غرفة، ثم متحف هيراكليون، وبعد الظهر أبحرت الباخرة عائدة إلى أثينا.

صعدت أرليت بالبكيني إلى السطح، وبينما بركان رغباته يصطخب، كانت الباخرة تمر بالقرب من جزيرة "سانتورين" المشهورة بالبركان الذي يحمل اسمها. إنها مصادفة عجيبة أن يتقابل بركانان.. أحدهما خامد والآخر يفور وينشط..

كانت أرليت طوال الرحلة تذيب الجمود بينهما تمهيداً للمعركة القادمة ... لذلك ... لم تتركه يلمس جسدها أو يحاول، فقط أشعلته وجعلته يرغب ويتمنى، وينتظر ويتحرق.. فانكبت تقرأ ما بأعماقه في نظراته الجائعة، وكان هذا الجوع الذي وصل مداه إلى قمم الخور فألاً حسناً لما قبل "الصدمة" ... !!

بالقرب من شارع بيلوبونيزوس PELOPONNESUS في أثينا، يوجد سوق تجاري قديم يموج بالحركة والحياة. بإحدى بناياته المرتفعة نزل ضاهر بالطابق التاسع، كانت الشقة مؤلفة من حجرة نوم واحدة وصالون، شقة صغيرة تكفي لشخص واحد أو لشخصين، تركت معه نورما بضع دراخمات وسافرت إلى "كاستوريا" في أقصى الشمال "لزيارة خالتها"، ووجد اللبناني نفسه وحيداً لعدة أيام دون اتصال منها أو من أرليت... إلى أن نفدت دراخماته وسيطر عليه الخوف والقلق. فهو غريب في بلد غريب لا يعرف لغتها، ولا يملك مالاً يتعيش منه، أو تذكرة سفر تعيده إلى وطنه.

وبينما هو في سجن مخاوفه وتوتره وجوعه، كان غسان في الشقة المجاورة ومعه اثنان آخران، من خلال شاشة صغيرة أمامهم كانوا يلاحظون كل شيء في شقته.

وفي التوقيت المختار والمحدد بدقة، اتصلت به أرليت، وذهبت إليه تحمل أكياس الطعام والعصائر، فملأ معدته الخاوية وخرج معها إلى شوارع أثينا وحدائقها البديعة، يملؤه الزهو وعيون المارة تحسده على فتاته الحسناء الفاتنة ... وتمنى وقتها لو أنه بقي إلى جوارها لا يفارقها أبداً... ولأنه يعرف قدر نفسه، ويخاف أن تصدمه، سألها عن فرصة عمل فوعدته أن تتكم مع والدها حيث يمتلك شركة خدمات بحرية كبرى بأثينا.

وبعد سهرة رائعة بأحد البارات صحبته إلى "مصيدة العسل" حيث بدت ثملة عن أخرها ازدادت التصاقاً به خشية السقوط وهو يقودها إلى غرفة النوم، تفوح من جسدها البض رائحة أريجية، ترسل دفقاً متواصلاً من الرغبة إلى عقله، ولما تحررت من بعض ملابسها ثار بركانه ... وانجرف إلى فوهة عميقة يطير تلذذاً ... واندهاشاً...

و .. بينما هما عاريان في الفراش ... تتصاعد نشوته شيئاً فشيئاً، فوجئ بنورما فوق رأسه، ومعها غسان ورفاقه.

انهمدت نشوته على حين فجأة، وارتجت فيه الأرض، فقد كانت نظراتها شعاعات من التوحش، وبصوتها حشرجة الهلاك.

قالت له في الحال مشيرة إلى أرليت التي انسحبت عارية من الحجرة:

Ø هايدي إسرائيلية ... من الموساد، كليتنا من الموساد، وبنريدك تعمل ويانا...

Ø ... مو .. موساد؟

Ø شو صار رأيك؟

"قذفت إليه بصوره العارية مع جورجيت ولوحت له بعدة شرائط مسجلة".

Ø موساد .. ؟

Ø وقعْ عالوثيقة نحنا ما بنمزح. "أخرجت من جيبها ورقة مطوية وقلماً".

Ø وثيقة؟ (كان كلما جذب الملاءة ليستر نفسه بها شدها أحدهم فبقى عرياناً).

صارخة في شراسة:

Ø ما بدنا تعطيل شوها لفرك؟ وقع .

إن الشخصية الخائرة ASTHENIC في نظريات علم المخابرات . تطلق على الشخص الذي أفقدته الصدمة قدرة التفكير .. ففي ظل الكارثة التي حلت به يصاب العقل بالذهول وتغيم في الشعور STUPOR مع غياب الحس وبلادة الإدراك SLUGGISH والانتقال من أحد جوانب الموقف إلى جانب آخر... وهو ما يطلق عليه في علم النفس مصطلح "الاتجاه المجرد" ABSTRACT ATTITUDE .

ومن خلال بطء العملية العقلية.. وعدم القدرة على التصرف، مع ظهور أمارات اضطرابات آلية، يسهل السيطرة على الشخص الخائر، والتحكم في إرادته المشلولة بنسبة فائقة النجاح. وقد كان هذا بالضبط هو حال ضاهر الذي فاجأته "الصدمة" فعجز عن مجابهتها. واستسلم لمصيره خائراً .. منهاراً.

ودون أن يدري ماذا حدث ... كأنه الحلم، وقّع أوراقاً لا يدري بالضبط ماذا كتب بها، وخرجت نورما تعلو وجهها ابتسامة الظفر، وعادت أرليت اليه من جديد، ولم تكن ثملة كما كانت تدعي، بل كانت تحمل كوباً من العرق اللبناني وطبقاً من "المازاوات".

كان على أرليت أن تبقى في جواره، خلال تلك اللحظات بالذات، حتى يفيق من ارتجاجة الصدمة. مستغلة هذه المرة أقصى ما عندها من نعومة وحنان ورقة، ولأنها مارست مهاماً عديدة سابقة كتلك، فالأمر بالنسبة لها أصبح مألوفاً... وطبيعياً. فقد كانت تمتلك خبرات عالية اكتسبتها في فن معاملة "المصدومين" لتليينهم ... وتمهيد الطريق للخطوات اللاحقة. إنها بحق خطوات شيطانية بدأت في فوار انطلياس، ثم بشقة نورما مع جورجيت، وأخيراً مع أرليت ذات المهمتين، التسخين ... والتليين.

ذلك إنه عالم المخابرات والجاسوسية الذي وصفه الكاتب المعروف "هانسون بولدوين" قائلاً:

"إن نظام المخابرات الصحيح عبارة عن منشأة ذات إمكانات هائلة لكل من الخير والشر، ويجب أن تستخدم الرجال والنساء كل الوسائل... فهي رقيقة، وشرسة، تتعامل مع الأبطال، والخونة ... وهي ترشي، وتفسد، وتختطف، وأحياناً... تقتل ... إنها تقبض على قوة الحياة والموت .. وتستغل أسمى وأدنى العواطف، وتستخدم في الوقت نفسه الوطنية حتى أعظم معانيها... والنزوات في أحط مداركها... !!".

بهذا وقع أحمد ضاهر في الشرك دون أدنى مقاومة .. فقد مورست معه نظريات علم النفس والسيطرة حتى أذعن للأمر... واستسلم لفريق التدريب صاغراً ليتمكن من تعليمه.. وتخريجه جاسوساً للموساد .. كيف بدأت رحلته في عالم التجسس على الفلسطينيين؟ وكيف جند خونة آخرين لصالح الموساد؟
العائد الجديد

تعهد به على الفور رجال الموساد في أثينا... وأخضعوه لدورات تدريبية في فنون التجسس وكيفية الامتزاج بالفلسطينيين، ولأنه – كطبيعة البشر – ربما قد يتمرد على واقعه بعدما يفيق من أثر الصدمة، أفهموه باستحالة الإفلات منهم .. وهددوه بأنه عملاءهم في لبنان لا حصر لهم .. ولديهم القدرة على إلحاق الأذى بمن يتمرد أو يرفض الاستمرار معهم .. وقد يصل الأمر إلى حد قتله أو قتل أولاده...

هكذا ألقوا الرعب بقلبه، ووعدوه بالثراء الفاحش إذا ما أخلص لهم... وأكدوا له مقدرتهم الكاملة على حمايته وعدم التخلي عنه في أية حال، وصيّروه "كالعجينة" في أيديهم يشكلونها كيفما شاؤوا، فتجمد الدم بأوردته وتوحش بداخله الخوف ينهش أعصابه... وكان كلما هدأ قليلاً ارتعشت أطرافه وخلجاته وغرق في محيط من هموم.

ولما أطلقوا عليه أرليت لتهدئته كانت رغبته قد تكسرت، وانعقدت إحساساته كرجل أمام أنوثتها المتوقدة، فلم يعد يثيره ذلك الجسد الأفروديتي الذي حلم باحتوائه، ودفئه ... ومذاقاته.

بعد ثلاثة أسابيع في أثينا حمل معاناته الثقيلة عائداً إلى بيروت، وأسرع إلى منزله في "عيترون" الحدودية يحفه الشوق لأسرته والخوف أيضاً، وكم كانت دهشته عندما اكتشف أن زوجته رباب لها مذاق جميل مسكر، مذاق بطعم آخر يحن إليه ويختلف كثيراً عن مذاق جورجيت وأرليت. قرأت رباب في عينيه تبدله ... وأحست بأن العائد ليس هو الزوج القديم، إنما شخص آخر يفيض حباً، وحناناً، وحزناً، وحاول بدوره أن يبدو طبيعياً لكن الحمل الثقيل الذي ينوء به يفصح عن أرقه وكوابيس خوفه ويفضح أسايره، وفشلت رباب في أن تجعله يبوح بما يؤرقه، بحنانها، عند هدأة نفسه بين أحضانها، وانهارت محاولات انتشاله من رعب الرؤى التي تؤرق مضجعه.

تزامن وصوله من أثينا بالأموال والهدايا مع وصول صديقه الشاعر كمال المحمودي من باريس مفلساً، محطماً، فجمعهما لقاء حار خيمت عليه ذكريات الشباب وأحلام الشهرة، وقص عليه المحمودي حكاياته في باريس وصدمته المرة هناك في العمل والنجاح، فاللبنانيون الذين قابلهم في باريس لكل منهم حكاية، فمنهم الفيلسوف الذي لا يسكت، والثرثار الذي يجب أن تضربه، والبورجوازي الحديث الذي يفرض عليك سماع قصص مغامراته، والمسكين الحزين الذي يلوي القلب، أيضاً الرومانسي الحامل في محفظته صورة جارته المتزوجة، والوطني المحاضر في مطعم "رشيد"، والنازل في أتويل "جورج سانك"، ناهيك بالوافد الذي يزور "راوول وكورلي" ويتفرج على فرساي، ويمارس الجنس بخمس فرنكات في "بيكال".

لقد صدم المحمودي في باريس وذاق الجوع والتشرد، وفشل في العثور على عمل يعينه على الاستمرار والعيش . برغم وجود شارعين باريسيين صغيرين متلاحقين في الدائرة العشرين، اسم الأول شارع لبنان، واسم الثاني شارع الموارنة، حفلا بالمئات من اللبنانيين الذين جاهلوه، وعاملوه بقسوة أدمت مشاعره وشاعريته ورقة إحساساته، فهرب إلى البيت الفرنسي اللبناني المعروف بـ "الفواييه فرانكو – ليبانيه" في 15 شارع دولم في باريس الخامسة، وهو مبنى جديد يتصل بكنيسة "نوتردام دي ليبان" على مدخله ناقوس فينيقي كبير من الفخار، وفي الصالون الكبير صورة ملونة للشاعر جبران خليل جبران يرتدي الأحمر، تذكره بقصيدة للشاعر "مورس عواد" عنوانها "يسوع كلساتو حمر"، حاول أن يقيم بالدار ولكنهم بأدب أشاروا إلى إطار ذهبي، بداخله صورة البطريرك "مار بطرس بولس المعشوق"، ففهم على الفور أنه كمسلم لا مكان له بالبيت المخصص للموارنة فقط، أخيراً عثر على عمل بمطعم LAURORE DE LAVIE بشارع لامارتين، كخادم وماسح للبلاط الذي يفترشه آخر الليل... مما أصابه بداء الروماتيزم... فقعد عن العمل وطرد من باريس كلها إلى بيروت.

أما أحمد ضاهر ... فقد اختلق قصة طويلة من الكفاح والمثابرة، زاعماً لصديقه أنه برغم نجاحه في الحصول على المال، فقد فشل في حلم حياته أن يصير مطرباً، ولما شجعه كمال على أن يحاول مرة أخرى بعدما امتلك المال... ضحك ضاهر في سخرية وقال له بأن في ذلك مغامرة خاسرة، ذلك لأن ضاهر الفنان قد مات واجتثت جذور أحلامه إلى الأبد.

يئس صديقه عن فهم ألغازه، واعتقد في نفسه بأن صراعه من أجل البقاء أنهكه كمثله تماماً، ولا بد أنه سيعود ذات يوم إلى حلمه.
نموت ... ولكن

شهر ونصف وضاهر في حالة انعدام وزن لا يدري كيف سيصير به الحال أو إلى أين يقوده مصيره ... فثمة موعد مع نورما بإحدى مقاهي القاسمية شمال صور، على أثره ستتحدد أشياء كثيرة. وفي الطريق إلى صور من عيترون، شاهد سيارات عديدة تقل أفواج الفدائيين الفلسطينيين بزيهم العسكري تتحرك شمالاً وجنوباً، تعلو وجوههم نظرات التحدي والإرادة ... والصمود.

عبرت به السيارة جسر القاسمية – أكبر الجسور وآخرها على نهر الليطاني – وغادرها ضاهر إلى جانب الجسر ... حيث خط حديد الحجاز الذي أقيم عام 1908، ليصل استانبول بالمدينة المنورة. ولماوصل إلى ما قرب المصب، حيث يقع المقهى المطل على بساتين الموالح من جهة، ومصب النهر من جهة أخرى، لم تكن نورما بانتظاره فجلس يطوف بأفكاره غارقاً في قلقه، متجاهلاً روعة منظر الماء والأشجار والطيور من حوله، وانتفض فجأة عندما أخبره الجرسون بأن سيدة تركت له رسالة.. فتناول منه المظروف المغلق ومشى باتجاه الجسر، وفضه في الطريق وبدنه يرتجف وقرأ جملة واحدة كتبت بالحبر الأحمر: "أرليت تطلب خطاباتها، فعجل بإرسالها... ".

كان الخطاب يحمل أمراً صريحاً بجمع أكبر قدر من المعلومات عن حركة المقاومة... واللقاء في اليوم التاسع والعشرين من الشهر "عدد حروف الجملة" الساعة الواحدة ظهراً "الرقم 29 مقسوماً على 3"، والحبر الأحمر يرشد عن مكان اللقاء في فوار انطلياس ، ذات المقهى الذي جمع بينهما في أول لقاء تحت الأضواء الخافتة.

بقيت أربعة أيام على الموعد المقرر، وكان عليه أثناءها أن يعد تقاريره ويسجل مشاهداته، واستلزم منه ذلك أن يقوم بعدة تحركات لأصدقائه بالقرى الحدودية، يستجلب الأخبار ويسمع بنفسه ما يردده الناس عن أبطال المقاومة، وقام برحلته الأولى للبحث عن صديقه "نايف البدوي" من بلدة "بارين" التي تبعد عن قريته، عيترون، سبعة كيلو مترات، وكيلو مترين ونصف فقط عن الحدود الإسرائيلية.

كان نايف البدوي زميل دراسته الابتدائية ورفيق صباه ... عمل بالتجارة وتزوج من امرأتين أنجبتا له ثمانية أولاد أحدهم معاق وأنفق على علاجه أموالاً طائلة بلا فائدة. ومن ناحية أخرى كان نايف "محبّاً" للنساء مباهياً بمغامراته معهن ومطارداته للحسناوات أينما كن... فتدهورت لذلك تجارته وانكمش رأسماله شيئاً فشيئاً إلى أن أفلس وباع متجره، أما وحاله تبدل هكذا، فقد هده العوز والدين... ولما زاره ضاهر كانت أحواله السيئة مرسومة على وجهه، وظاهرة جلية في كل أركان بيته... فأشفق عليه صديقه ونقده مائة ليرة طالعها نايف ببشاشة وفرح، ورجاه أن يبحث له عن عمل ينفق منه على الجيش الذي ببيته.

عاد ضاهر إلى منزله منكباً على تسجيل ما اطلع عليه خلال تحركاته في أقصى الجنوب، بينما تنطلق به السيارة إلى بيروت لمقابلة نورما عساف، كان صوت المذياع ينطلق مجلجلاً بالنشيد:

Ø فلتسمع كل الدنيا ... فلتسمع

Ø سنجوع ونعرى ... قطعاً نتقطع

Ø ونسف ترابك يا أرضاً ... تتوجع

Ø ونموت ... نموت ولكن ... لن نركع

Ø لن يخضع منا حتى طفل يرضع... !!

بدت نورما في مقهى فوار انطلياس ناعمة رقيقة حالمة ... إلا أن منظرها البشع ذا الفحيح المرعب بشقة أثينا لم يكن ليغيب للحظة عن مخيلة ضاهر.. فما أن رآها حتى سرت ببدنه رعشة خائفة وهو بمجلسه قبالتها، ومشى خلفها إلى سيارتها مضطرباً، فدارت بها دورتين كاملتين حول المكان، ثم انطلقت مسرعة إلى الشمال... فعبرت نهر الكلب بطريق طرابلس – بيروت، وانحرفت يميناً باتجاه البساتين الكثيفة والأحراش ... وأمام منزل خشبي ريفي قديم توقفت، ودفعت اليه بالمفتاح فعالج الباب وسبقها إلى الداخل بيده عود ثقاب مشتعل، فبدا المكان الموحش المجهول مع وجود نورما كبيت الرعب.

أضاءت مصباحها اليدوي وعلى مقعد متهالك جلست لتقرأ ما جاءها به من تقارير ملأت تسع صفحات... وما ان انتهت حتى قذفت بها إلى وجهه غاضبة، فانكمش مذعوراً متوقعاً لكل شيء، غذ تحول جمالها إلى توحش مخيف، وانطلقت نظراتها كالسهام الحارقة مع سيل من السباب لجهله بأمور التجسس التي تدرب عليها، وافتقاده للحس الأمني في الرصد والتحركات وإدارة الحوار.

رغم ذلك أعطته خمسمائة ليرة، وأخضعته لدورة تدريبية أخرى أكثر تكثيفاً وحرفية ... وحددت له مهاماً بعينها عليه القيام بها دون غيرها، وطلبت منه أن يزور صديقه نايف البدوي ويوطد علاقته به نظراً لموقع قريته الحدودية الهام.

استقر كمال المحمودي ببيروت بعدما عمل بإحدى الصحف، كانت

mad
Admin

عدد المساهمات : 1501
تاريخ التسجيل : 19/08/2009

https://madworld.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى